فصل: تفسير الآيات (11- 14):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (11- 14):

{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)}
ولما كان من تعرفه من المرغبين والمرهبين لا يفعل ذلك إلا فيما ليس قادراً على حفظه وضبطه حتى لا يحتاج العامل في عمل ذلك إلى رقيب يحفظه ووكيل يلزمه ذلك العمل ويضبطه، وكان قول المنافقين المتقدم في الإنفاق والإخراج من المصائب، وكانت المصائب تطيب إذا كانت من الحبيب، قال جواباً لمن يتوهم عدم القدرة متمماً ما مضى من خلال الأعمال بالإيمان بالقدر خيره وشره، مرغباً في التسليم مرهباً من الجزع قاصراً الفعل ليعم كل مفعول: {ما أصاب} أي أحداً يمكن المصائب أن تتوجه إليه، وذكر الفعل إشارة إلى القوة، وأعرق في النفي بقوله: {من مصيبة} أيّ مصيبة كانت دينية أو دنيوية من كفر أو غيره {إلا بإذن الله} أي بتقدير الملك الأعظم وتمكينه، فلا ينبغي لمؤمن أن يعوقه شيء من ذلك عن التقوى النافعة في يوم التغابن.
ولما تسبب عن ذلك ما تقديره: فمن يكفر بالله بتقديره عليه الكفر يغو قلبه ويزده ضلالاً فيفعل ما يتوغل به في المصيبة حتى تصير مصائب عدة فتهلكه، عطف عليه قوله باعثاً على أول ركني الإسلام وهو إصلاح القوة العلمية: {ومن يؤمن بالله} أي يوجد الإيمان في وقت من الأوقات ويجدده بشهادة إن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله بسبب الملك الأعظم وتقديره وإذنه {يهد قلبه} أي يزده هداية بما يجدده له من التوفيق في كل وقت حتى يرسخ إيمانه فتنزاح عنه كل مصيبة، فإنه يتذكر أنها من الله وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه فيسلم بقضائه فيصبر له ويفعل ويقول ما أمر الله به ورسوله فيخف عليه، ولا يعوقه عن شيء من المنجيات في يوم التغابن، بل يحصل له بسببها عدة أرباح وفوائد، فتكون حياته طيبة بالعافية الشاملة في الدينيات والكونيات لأن بالعافية في الكونيات تطيب الحياة في الدنيا، وبالعافية في الدينيات تطيب الحياة في الآخرة فتكون العيشة راضية، وذلك بأن يصير عمله صواباً في سرائه وضرائه فيترك كل فاحشة دينية بدنية وباطنة قلبية ويترك الهلع في المصائب الكونية كالخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات وذلك لأنه بصلاح القلب ينصلح البدن كله.
ولما كان التقدير تعليلاً لذلك: فاللّه على كل شيء قدير فهو لا يدع شيئاً يكون إلا بإذنه، عطف عليه قوله: {والله} أي الملك الذي لا نظير له {بكل شيء} مطلقاً من غير مثنوية {عليم} فإذا تحقق من هدى قلبه ذلك زاح كل اعتقاد باطل من كفر أو بدعة أو صفة خبيثة. ولما كان التقدير: فاصبروا عن هجوم المصائب، عطف عليه قوله تحذيراً من أن يشتغل بها فتوقع في الهلاك وتقطع عن أسباب النجاة دالاً على تعلم أمور الدين من معاداتها مشيراً إلى أن العبادة لا تقبل إلا بالاتباع لا بالابتداع: {وأطيعوا الله} أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله فافعلوا في كل مصيبة ونائبة تنوبكم وقضية تعروكم ما شرعه لكم، وأكد بإعادة العامل إشارة إلى أن الوقوف عند الحدود ولاسيما عند المصائب في غاية الصعوبة فقال: {وأطيعوا الرسول} أي الكامل في الرسلية- صلى الله عليه وسلم- فإنه المعصوم بما خلق فيه من الاعتدال وما زكى به من شق البطن وغسل القلب مراراً، وما أيد به من الوحي، فما كانت الأفعال بإشارة العقل مع الطاعة لله والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم في كل إقدام وإحجام كانت معتدلة، سواء كانت شهوانية أو غضبية، ومتى لم تكن كذلك كانت منحرفة إلى أعلى وإلى أسفل فكانت مذمومة، فإن الله تعالى بلطف تدبيره ركب في الإنسان قوة غضبية دافعة لما يهلكه ويؤذيه، وقوة شهوانية جالبة لما ينميه ويقويه، فاعتدال الغضبية شجاعة ونقصها جبن وزيادتها تهور، فالناس باعتبارها جبان وشجاع ومتهور، واعتدال الشهوانية عفة ونقصانها زهادة وزيادتها شره، والناس باعتبارها زهيد وعفيف وشره، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، وميزان العدل متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما شرعه، فبذلك تنزاح الفتن الظاهرة والباطنة، ولا طريق إلى الله إلا بما شرعه، وكل طريق لم يشرعه ضلال من الكفر إلى ما دونه، ثم سبب عن أمره ذلك قوله معبراً بإداة الشك إشارة إلى البشارة بحفظ هذه الأمة من الردة ومشعراً بأن بعضهم يقع منه ذلك ثم يقرب رجوعه أو هلاكه: {فإن توليتم} أي كلفتم أنفسكم عندما تدعو إليه الفطرة الأولى من الإعراض عن هذا النور الأعظم والميل إلى طرف من الأطراف المفهومة من طرفي القصد فما على رسولنا شيء من توليكم {فإنما على رسولنا} أضافه إليه على وجه العظمة تعظيماً له وتهديداً لمن يتولى عنه {البلاغ المبين} أي الظاهر في نفسه المظهر لكل أحد أنه أوضح له غاية الإيضاع ولم يدع لبساً، ليس إليه خلق الهداية في القلوب.
ولما كان هذا موجعاً لإشعاره بإعراضهم مع عدم الحيلة في ردهم، عرف بأن ذلك إنما هو إليه وأنه القادر عليه فقال جواباً لمن كأنه قال: فما الحيلة في أمرهم- مكملاً لقسمي الدين بالاستعانة بعد بيان قسمه الآخر وهو العبادة: {الله} أي المحيط بجميع صفات الكمال {لا إله إلا هو} فهو القادر على الإقبال بهم ولا يقدر على ذلك غيره، فإليه اللجاء في كل دفع ونفع وهو المستعان في كل شأن فإياه فليرج في هدايتهم المهتدون {وعلى الله} أي الذي له الأمر كله لا على غيره. ولما كان مطلق الإيمان هو التصديق بالله باعتقاد أنه القادر على كل شيء فلا أمر لأحد معه ولا كفوء له فكيف بالرسوخ فيه، نبه على هذا المقتضي للربط بالفاء والتأكيد بلام الأمر في قوله: {فليتوكل المؤمنون} أي يوجد التوكيل إيجاداً هو في غاية الظهور والثبات العريقون في هذا الوصف في رد المتولي منهم إن حصل منهم تول وكذا في كل مفقود فالعفة ليست مختصة بالموجود فكما أن قانون العدل في الموجود الطاعة فقانون العدل في المفقود التوكل وكذا فعل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فكان لهم الحظ الأوفر في كل توكل لاسيما حين ارتدت العرب بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وكان أحقهم بهذا الوصف الصديق رضي الله تعالى عنه كما يعرف ذلك من ينظر الكتب المصنفة في السير وأخبار الردة لاسيما كتابي المسمى في أخبار الردة.
ولما كانت أوامر الدين تارة تكون باعتبار الأمر الديني من سائر الطاعات المحضة، وتارة باعتبار الأمر التكويني وهو ما كان بواسطة مال أو أهل أو ولد، أتم سبحانه القسم الأول في الآيتين الماضيتين، شرع في الأمر الثاني لأنه قد ينشأ عنه فتنة في الدين وقد ينشأ عنه فتة في الدنيا، ولما كانت الفتنة بالإقبال عليه والإعراض عنه أعظم الفتن، لأنها تفرق بين المرء وزوجه وبين المرء وابنه وتذهل الخليل عن خليله- كما شوهد ذلك في بدء الإسلام، وكان أعظم ذلك في الردة، وكان قد تقدم النهي عن إلهاء الأموال والأولاد، وكان النهي عن ذلك في الأولاد نهياً عنه في الأزواج بطريق الأولى، فلذلك اقتصر عليهم دون الأزواج، وكان المأمور بالتوكل ربما رأى أن تسليم قياده لكل أحد لا يقدح في التوكل، أشار إلى أن بناء هذه الدار على الأسباب مانع من ذلك فأمر بنحو «اعقلها وتوكل» «واحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز» الحديث، فقال جواباً عن ذلك لمن يحتاج إلى السؤال عن مثله مبيناً للأوامر بالاعتبار للامتحان التكويني وإن كان أولى الناس ببذل الجهد في تأديبه وتقويمه وتهذيبه أقرب الأقارب وألصق الناس بالإنسان وهو كالعلة لآخر المنافقون: {يا أيها الذين آمنوا} ولما كان الأزواج أقرب عداوة من الأولاد قدمهن، فقال مؤكداً لمن يستبعد ذلك: {إن من أزواجكم} وإن أظهرن غاية المودة {وأولادكم} وإن أظهروا أيضاً غاية الشفقة والحنان {عدواً لكم} أي لشغلهم لكم عن الدين أو لغير ذلك من جمع المال وتحصيل الجاه لأجلهم والتهاون بالنهي عن المنكر فإن الولد مجبنة وغير ذلك، قال أبو حيان رحمه الله تعالى: ولا أعدى على الرجل من زوجه وولده إذا كانا عدوين وذلك في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فبإذهاب ماله- كما هو معروف- وعرضه، وأما في الآخرة فيما يسعى في اكتسابه من الحرام لأجلهم وبما يكسبانه منه بسبب جاهه.
فالرجل من رأى ذلك نعمة من الله فجعله معيناً له على طاعته لا قاطعاً ومعوقاً عما يرضيه بأن يلتهي بمحبته وعداوته وبغضته. ولما أخبر عن العداوة، عبر بما قد يفهم الواحد فقط تخفيفاً، ولما أمر بالحذر جمع إشارة إلى زيادة التحذير والخوف في كل أحد ولو كان أقرب الأقرباء لأن الحزم سوء الظن كما رواه الطبراني في الأوسط، فسبب عن الإخبار بالعداوة الأمر بالحذر في قوله: {فاحذروهم} أي بأن تتقوا الله في كل أمرهم فتطلبوا في السعي عليهم الكفاف من حله وتقتصروا عليه، ولا يحملنكم حبهم على غير ذلك، وليشتد حذركم منهم بالعمل بما أمر الله حتى في العدل بينهم لئلا يتمكنوا من أذاكم فيعظم بهم الخطب ويكون فاتناً لكم في الدين إما بالردة- والعياذ بالله تعالى- أو بالشغل عن الطاعة أو بالإقحام في المعصية ومخالفة السنة والجماعة.
ولما كان قد يقع ما يؤذي مع الحذر لأنه لا يغني من قدر أو مع الاستسلام، وكان وكل المؤذي إلى الله أولى وأعظم في الاستنصار، قال مرشداً إلى ذلك: {وإن تعفوا} أي توقعوا المجاوزة عن ذنوبهم بعدم العقاب عليها فإنه لا فائدة في ذلك لأن من طبع على شيء لا يرجع، وإنما النافع الحذر الذي أرشد إليه سبحانه لئلا يكون سبباً للو المنهي عنه.
ولما كان الرجوع عن الحظوظ صعباً جداً، أكد سبحانه فقال: {وتصفحوا} أي بالإعراض عن المقابلة بالتثريب باللسان {وتغفروا} أي بأن تستروا ذنوبهم ستراً تاماً شاملاً للعين والأثر بالتجاوز بعد ترك العقاب عن العتاب، فلا يكون منكم اشتغال بعداوتهم ولا ما قد يجرها عما ينفع من الطاعة، ولما كان التقدير: يغفر الله لكم، سبب عنه قوله: {فإن الله} أي الجامع لصفات الكمال {غفور} أي بالغ المحو الأعيان الذنوب وآثرها جزاء لكم على غفرانكم لهم وهو جدير بأن يصلحهم لكم بسبب غفرانكم لهم فإنه {رحيم} يزيدكم بعد ذلك الستر الإكرام بالإنعام إن أكرمتموهم، فتخلقوا بأخلاقه سبحانه يزدكم من فضله.

.تفسير الآيات (15- 18):

{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)}
ولما حكم على البعض، كان كأنه قيل: فما حكم سائره؟ فكأن الحكم بذلك يلزم منه الحذر من الكل لكن للتصريح سر كبير في ركون النفس إليه، فقال حاصراً الجميع ضاماً إليهم المال الذي به قيام ذلك كله وقدمه لأنه أعظم فتنة: {إنما} وأسقط الجار لأن شيئاً من ذلك لا يخلو عن شغل القلب فقال: {أموالكم} أي عامة {وأولادكم} كذلك {فتنة} أي اختبار مميل عن الله لكم وهو أعلم بما في نفوسكم منكم لكن ليظهر في عالم الشهادة من يميله ذلك فيكون عليه نقمة ممن لا يميله فيكون له نعمة، فربما رام الإنسان صلاح ماله وولده فبالغ فأفسد نفسه ثم لا يصلح ذلك ماله ولا ولده، وذلك أنه من شأنه أن يحمل على كسب الحرام ومنع الحق والإيقاع في الإثم، روي عن أبي نعيم في الحلية في ترجمة سفيان الثوري عنه أنه قال: «يؤتى برجل يوم القيامة فيقال له: أكل عياله حسناته» «ويكفي فتنة المال قصة ثعلبة بن حاطب أحد من نزل فيه قوله فتنة تعالى: {ومنهم من عاهد الله لئن أتانا من فضله لنصدقن} [التوبة: 75]» وكأنه سبحانه ترك ذكر الأزواج في الفتنة لأن منهم من يكون صلاحاً وعوناً على الآخرة.
ولما كان التقدير: ففي الاحتراز من فتنهم تعب كبير، لا يفوت به منهم إلى حظ يسير، وكانت النفس عند ترك مشتبهاتها ومحبوباتها قد تنفر، عطف عليه مهوناً له بالإشارة إلى كونه فانياً وقد وعد عليه بما لا نسبة له منه مع بقائه قوله: {والله} أي ذو الجلال {عنده} وناهيك بما يكون منه بسبيل جلاله وعظمه {أجر} ولم يكتف سبحانه بدلالة السياق على أن التنوين للتعظيم حتى وصفه بقوله: {عظيم} أي لمن ائتمر بأوامره التي إنما نفعها لصاحبها، فلم يقدم على رضاه مالاً ولا ولداً، وذلك الأجر أعظم من منفعتكم بأموالكم وأولادكم على وجه ينقص من الطاعة.
ولما كان التقدير: وعنده عذاب أليم لمن خالف، سبب عنه قوله فذلكة أخرى لما تقدم من السورة كلها: {فاتقوا الله} مظهراً غير مضمر تعظيماً للمقام واحترازاً من أن يتوهم نوع تقيد فأفهم الإظهار أن المعنى: اجعلوا بينكم وبين سخط الملك الأعلى وقاية من غير نظر إلى حيثية ولا خصوصية بشيء ما، باجتناب نواهيه بعد امتثال أوامره، فإن التقوى إذا انفردت كان المراد بها فعل الأوامر وترك المناهي، وإذا جمعت مع غيرها أريد بها اجتناب النواهي فقط.
ولما كان الأمر إذا نسب إليه سبحانه أعظم من مقالة قائل، فلا يستطيع أحد أن يقدره سبحانه حق قدره، خفف ويسر بقوله: {ما استطعتم} أي ما دمتم في الجملة قادرين مستطيعين، ويتوجه عليكم التكليف في العلميات والعمليات، وابذلوا جهدكم في ذلك في الإيمانيات لما علمتم من ذاته ومرتبته وصفاته تعالى وأفعاله، وغير ذلك من جميع أعمالكم الظاهرة والباطنة، وأعظمه الهجرة والجهاد، فلا يمنعكم الإخلاد إليها ذلك والتقوى فيما وقع من المكروهات بالندم والإقلاع مع العزم على ترك العود، وفيما لم يقع بالاحتراس عن أسبابه، وبذل الإنسان جميع جهده هو الاتقاء حق التقاة فلا نسخ- والله أعلم.
ولما كان إظهار الإسلام فيه مشقة كالأعمال قال: {واسمعوا} أي سماع إذعان وتسليم لما توعظون به ولجميع أوامره {وأطيعوا} أي وصدقوا ذلك الإذعان بمباشرة الأفعال الظاهرة في الإسلاميات من القيام بأمر الله والشفقة على خلق الله في كل أمر ونهي على حسب الطاقة، وحذف المتعلق ليصدق الأمر بكل طاعة من الكل والبعض وكذا في الإنفاق. ولما كان الإنفاق شديداً أكد أمره بتخصيصه بالذكر فقال: {وأنفقوا} أي أوقعوا الإنفاق كما حد لكم فيما أوجبه أو ندب إليه وإن كان في حق من اطلعتم منها على عداوة، والإنفاق لا يخص نوعاً بل يكون ما رزق الله من الذاتي والخارجي.
ولما كان الحامل على الشح ما يخطر في البال من الضرورات التي أعزها ضرورة النفس، رغب فيه بما ينصرف إليه بادئ بدء ويعم جميع ما تقدم فقال: {خيراً} أي يكن ذلك أعظم خير واقع {لأنفسكم} فإن الله يعطي خيراً منه في الدنيا ما يزكي به النفس، ويدخر عليه من الجزاء في الآخرة ما لا يدري كنهه، فلا يغرنكم عاجل شيء من ذلك فإنما هو زخرف وغرور لا طائل تحته. ولما ذكر ما في الإنفاق من الخير عم في جميع الأوامر فقال: {ومن يوق} بناه للمفعول تعظيماً للترغيب فيه نفسه مع قطع الناصر عن الفاعل أي يقيه واق أيّ واق كان- وأضافه إلى ما الشؤم كله منه فقال: {شح نفسه} فيفعل في ماله وجميع ما أمر به ما يطيقه مما أمر به موقناً به مطمئناً إليه حتى يرتفع عن قلبه الأخطار، ويتحرز عن رق المكونات، والشح: خلق باطن هو الداء العضال رأس الحية وكل فتنة ضلالة، والبخل فعل ظاهر ينشأ عن الشح، والنفس تارة تشح بترك الشهوة من المعاصي فتفعلها، وتارة بإعطاء الأعضاء في الطاعات فتتركها، وتارة بإنفاق المال، ومن فعل ما فرض عليه خرج عن الشح. ولما كان الواقي إنما هو الله تعالى سبب عن وقايته قوله: {فأولئك} أي العالو الرتبة {هم} أي خاصة {المفلحون} أي الذين حازوا جميع المرادات بما اتقوا الله فيه من الكونيات من المال والولد والأهل والمشوشات من جميع القواطع. ولما أمر ورهب من ضده على وجه أعم، رغب فيه تأكيداً لأمره لما فيه نم الصعوبة لاسيما في زمان النبي صلى الله عليه وسلم فإن المال فيه كان في غاية العزة ولاسيما إن كان في لوازم النساء اللاتي افتتح الأمر بأن منهن أعداء ولاسيما إن كان في حال ظهور العداوة، فقال بياناً للإفلاح متلطفاً في الاستدعاء بالتعبير بالقرض مشيراً إلى أنه على خلاف الطبع بأدة الشك: {إن تقرضوا الله} أي الملك الأعلى ذا الغنى المطلق المستجمع لجميع صفات الكمال بصرف المال وجميع قواكم التي جعلها فتنة لكم في طاعاته، ورغب في الإحسان فيه بالإخلاص وغيره فقال: {قرضاً حسناً} أي على صفة الإخلاص والمبادرة ووضعه في أحسن مواضعه على أيسر الوجوه وأجملها وأهنأها وأعدلها، وأعظم الترغيب فيه بأن رتب عليه الربح في الدنيا والغفران في الآخرة فقال: {يضاعفه لكم} أي لأجلكم خاصة أقل ما يكون للواحد عشراً إلى ما لا يتناهى على حسب النيات، قال القشيري: يتوجه الخطاب بهذا على الأغنياء في بذل أموالهم وعلى الفقراء في إخلاء أيامهم وأوقاتهم عن مراداتهم وإيثار مراد الحق على مراد أنفسهم، فالغني يقال له: آثر على مرادك في مالك وغيره، والفقير يقال له: آثر حكمي في نفسك وقلبك ووقتك.
ولما كان الإنسان لما له النقصان وإن اجتهد لا يبلغ جميع ما أمر به لأن الدين وإن كان يسيراً فهو متين «لن يشاده أحد إلا غلبه» قال: {ويغفر لكم} أي يوقع الغفران وهو محو ما فرط عينه وأثره لأجلكم ببركة الإنفاق، وقد تضمنت هاتان الجملتان جلب السرور ودفع الشرور، وذلك هو السعادة كلها.
ولما كان التقدير: فاللّه غفور رحيم، عطف عليه قوله: {والله} أي الذي لا يقاس عظمته بشيء {شكور} أي بليغ الشكر لمن يعطي لأجله ولو كان قليلاً فيثيبه ثواباً جزيلاً خارجاً عن الحصر وهو ناظر إلى المضاعفة {حليم} لا يعاجل بالعقوبة على ذنب من الذنوب وإن عظم بل يمهل كثيراً طويلاً ليتذكر العبد الإحسان مع العصيان فيتوب، ولا يهمل ولا يغتر بحلمه، فإن غضب الحليم لا يطاق، وهو راجع إلى الغفران.
ولما كان الحليم قد يتهم في حلمه بأن ينسب إلى الجهل بالذنب أو بمقداره قال: {عالم الغيب} وهو ما غاب عن الخلق كلهم فيشمل ما هو داخل القلب مما تؤثره الجبلة ولا علم لصاحب القلب به فضلاً عن غيره. ولما كان قد يظن أنه لا يلزم من علم ما غاب علم ما شهد، أو يظن أن العلم إنما يتعلق بالكليات، قال موضحاً أن علمه بالعالمين بكل من الكليات والجزئيات قبل الكون وبعده على حد سواء: {والشهادة} وهو كل ما ظهر فكان بحيث يعلمه الخلق، وهذا الوصف داع إلى الإحسان من حيث إنه يوجب للمؤمن ترك ظاهر الاسم وباطنه وكل قصور وفتور وغفلة وتهاون فيعبد الله كأنه يراه.
ولما شمل ذلك كل ما غاب عن الخلق وما لم يغب عنهم فلم يبق إلا أن يتوهم أن تأخير العقوبة للعجز قال: {العزيز} أي الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء. ولما كان ذلك قد يكون لأمر آخر لا يمدح عليه قال: {الحكيم} أي أنه ما أخره إلا لحكمة بالغة يعجز عن إدراكها الخلائق، وقد أقام الخلائق في طاعته بالجري تحت إرادته، وتارة يوافق ذلك أمره فيسمى طاعة. وتارة يخالف فيسمى معصية، فمن أراد أتم نعمته عليه بالتوفيق للطاعة بموافقته أمره بإحاطة علمه والإتقان في التدبير ببالغ حكمته وإدامة ذلك وحفظه عن كل آفة بباهر عزته، ومن أراد منعه ذلك بذلك أيضاً والكل تسبيح له سبحانه بإفادة أنه الواحد القهار، وقد أحاط أول الجمعة بهذه السورة أولها وآخرها، فجاءت هذه شارحة له وكاشفة عنه على وجه أفخم لأن مقصود هذه نتيجة مقصد تلك، وقد رجع- بالتنزه عن شوائب النقص والاختصاص بجميع صفات الكمال وشمول القدرة للخق وإحاطة العلم بأحوال الكافر والمؤمن- على افتتاحها حسن ختامها، وعلم علماً ظاهراً جلالة انتظامها، وبداعة اتساق جميع آيها وبراعة التئامها- والله الموفق للصواب.